
“وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا”
الكون، بكل تفاصيله المعقدة، مبني على قوانين ثابتة صارمة.
لا تكتئب الشمس لموت أحد، مهما بلغت عظمته، ولا تبرق النجوم لمولد أحد، ولا تخبو لرحيله.
السلوك البشري المؤدي إلى الخراب والدمار يخضع لقوانين كونية تربط الأسباب بالنتائج، كما يبين القرآن الكريم في قوله تعالى: “وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا” (سورة الإسراء: 16).
هذه الآية لا تروي قصة محددة بمكان أو زمان، بل تعبر عن قانون كوني يسري منذ بدء الخلق. يربط هذا القانون بين الدمار الشامل وفشل النخب -أو “المترفين”- في إدارة السلطة والثروة بمسؤولية.
“أمرنا مترفيها” لا يعني إصدار أمر إلهي لحظي يدعوهم للانحراف، بل يشير إلى قانون كوني ثابت: إذا انحرفت النخب، التي تملك السلطة والثروة، عن الطريق القويم، فإن ذلك يقود الأمة إلى الهلاك.
الكون يسير وفق قوانين لا تُخالف. إذا سقط إنسان من ارتفاع، فإنه يهوي إلى الأرض بسرعة محددة تحددها قوانين الجاذبية، وقوة الصدمة تتناسب مع الارتفاع. إذا تحقق قانون الطفو -أي تساوى وزن الماء المُزاح بجسم السفينة مع وزنها- فإن السفينة تطفو، وإلا فإنها تغرق. الأرض تدور حول نفسها بسرعة ثابتة تحدد اليوم، وحول الشمس بسرعة تحدد السنة. الكواكب في المجموعة الشمسية، والنجوم في المجرة، والمجرات في الكون، كلها تسبح في أفلاكها دون اضطراب: “كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ” (سورة يس: 40).
كل هذه قوانين صارمة غير قابلة للتغيير.
قانون الدمار الشامل ينطبق على المجتمعات عندما يفسق “المترفون” -أي النخب التي تجمع بين السلطة والثروة- في إدارة الشأن العام. الفسق هنا ليس مجرد انحراف فردي، بل فساد مؤسسي يشمل الظلم، سوء إدارة الموارد، واستغلال النفوذ. عندما يحدث ذلك، يتحقق القانون الطبيعي، فتُدمر تدميرًا شاملاً.
في بداية الألفية، حوالي عام 2003، بدأت بوادر التوترات الأمنية في دارفور بالسودان. “المترفون” -وهم القيادة السياسية التي تمسك بالسلطة والثروة معًا- ليس شرطًا أن يكون القائد نفسه ثريًا (مثل الرئيس ترمب).. بل يكفي أن يصنع بفساده السياسي أثرياء على حساب الفقراء. هؤلاء المترفون مارسوا في دارفور ظلمًا مؤسسيًا باستخدام سلطة الدولة ومواردها، فتحولت المنطقة إلى واحدة من أكبر المظالم في التاريخ الحديث. وكما ينص القانون الكوني: “فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ..” أي انطبقت القاعدة.. “فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا” تحققت النتيجة. جاء الدمار الشامل الذي لم يترك حتى “كوابل” الكهرباء في باطن الأرض.
الحكم الرشيد أقوى حماية للأمن القومي وأكبر ضمان لسلامة الدولة، لأنه يحقق قانون الرقي والنمو والازدهار من خلال العدل بين الشعب. الحكم الرشيد لا يقتصر على السلطة، بل يتطلب وعيًا شعبيًا يرتقي بالسلوك العام. عندما يتكامل رشد القيادة مع وعي الشعب، تطفو الدولة بقوة على سطح الحياة الراقية، كما تطفو السفينة عندما يتحقق قانون الطفو.
ينصلح حال الأمة باصلاح “مترفيها”.. فبدلا من أن “يفسقوا فيها” بالسلطة والثروة.. يحسنوا ادارتها.. والعدل فيها.
من هنا نبدأ..