تفاصيل مروعة عن جـ.ريمـ.ـة قـ.تل

في أرشيف المخابرات الجوية، كان هناك رقمٌ واحد: 9077.
هذا الرقم الذي كان يرمز إلى وجوده في دفاتر القتلة، لم يكن مجرد رقم عابر. كان الرقم الذي يحمل قصة حياة، ويختصر مأساة شعب كامل.
كان والدي، خالد عليان، الرجل الذي كان يملؤه الحب للحياة والابتسامة التي لا تفارق وجهه. لم يكن يحمل السلاح، ولم يكن منخرطًا في السياسة، لكن مدينة “داريا” وحدها كانت كافية لتجعل منه هدفًا للظلم. كان في وطنٍ تحكمه يدُ مجرم، حيث يُحدد مصيرك حسب دينك ومدينتك.
في عام 2012، تعرض للاعتقال لأول مرة. أخذوه بعيدًا عنا بلا سبب، بلا محاكمة، بلا أي تفسير. ربما كان ذلك بسبب تقرير كُتِب على عجلة، وذهب ثمنه إلى أولئك الذين لا يعرفون سوى لغة المال. لكن والدي كان هو من دفع الثمن، وظل يعيش في صمتٍ عميق بعد خروجه، وكأن روحه بقيت محتجزة في جدران السجون. ورغم محاولاته أن يعود كما كان، كان هناك شيء ما قد انكسر في داخله، ولم نتمكن من ترميمه.
وبعد شهور، تم اعتقاله مرة أخرى في عام 2013، هذه المرة في أحد أسواق دمشق، بعد أن نجونا من المجازر في داريا. أخذوه بعيدًا عنا دون وداع، دون كلمة واحدة. كنا ننتظره لفترة طويلة، وأمضينا أيامًا وسنينًا نأمل في أن يعود. ولكن، في سوريا، الأبواب التي تأخذ الأحبة لا تُعيدهم أبدًا.
انتظرناه لعامين كاملين، لكن الحقيقة كانت قاسية. مات والدي في السجون، حيث لا رحمة ولا حياة، تحت التعذيب، تحت السياط. لم يمت ميتة طبيعية، بل مات موتًا صنعه جناةٌ لا يعترفون بالإنسانية. مات بين جدران الزنازين التي لا تعرف النور.
وفي عام 2015، عندما تسربت صور “قيصر”، رأيت والدي للمرة الأولى منذ سنوات. لكنه لم يكن كما عرفته. كان جسده ملقى على الأرض بين جثث الآخرين، وجهاً مغطى بالجروح، عينيه المرهقتين من العذاب. كان يحمل رقمه على جبينه، رقمًا يحدد مصيره في عالم قاسٍ لا رحمة فيه. رأيت الصورة ولم أستطع أن أتركه هناك. كنت بحاجة لأن أراه في مكانٍ أكثر رحمة، في ضوء الشمس، على العشب الأخضر، في كفنٍ نظيف. ولكنني اخترت أن أؤمن بأن الله قد أبدل المشهد، وأنه في مكانٍ أفضل، في راحةٍ وسلام.
لا أُحزن على والدي، لأنه اليوم في مكانٍ لا يعرف التعذيب ولا الألم. أما نحن هنا، فنعيش في انتظار العدالة التي تأخرت كثيرًا.
إلى الرجل الذي التقط الصورة، إلى “قيصر”، الرجل الذي خاطر بحياته ليكشف الحقيقة، شكراً لك. لم تستطع أن توقف الموت، لكنك كنت شاهدًا حيًا على الجريمة ورفضت السكوت. أنت آخر من رآه قبل دفنه في المقابر الجماعية، وأنت من جعلني أعرف مصير والدي بعد كل تلك السنوات من الانتظار. بفضل شجاعتك، عرفنا الحقيقة، وأنت منحتنا الإجابة التي كانت غائبة عنّا طوال هذه الفترة.
لن أنسى تضحياتك، ولن ينسى التاريخ شجاعتك. شكراً لك من أعماق قلبي.
من ابن الشهيد رقم 9077، خالد عليان. شكراً لك، “قيصر”.