آراء ومقالات

سياسة “فرّق تسد” لا تزال تقتل حلم السودان.

في عمق الواقع السوداني المعقّد تطفو على السطح حقيقة مرة يفضل الكثيرون تجاهلها أو التخفيف من حدتها كما لو كانت قصة من قصص ما قبل النوم تُروى دون خشية من نتائجها، الحقيقة تقول إن أجيالاً متعاقبة من أبناء السودان لا تزال تدفع فاتورة سياسة استعمارية قديمة لم تكن لهم يد فيها ولم يكونوا جزءاً من صنعها لكنها أصبحت جزءاً لا يتجزأ من الواقع الذي يعيشونه اليوم.

سياسة “فرّق تسد” التي استخدمها المستعمر البريطاني أثناء حكمه للسودان لم تكن مجرد استراتيجية مرحلية للسيطرة على الشعوب بل كانت بذرة سامة زُرعت بعناية في تربة التعدد الإثني والثقافي السوداني لتؤتي أُكُلها لاحقاً في شكل انقسامات اجتماعية ونزاعات قبلية وتفتيت مستمر للنسيج الوطني.

ورغم رحيل الاستعمار منذ عقود إلا أن أثر تلك السياسة لم يرحل بل أخذ يتجدد ويتحوّر وينتقل من جيل إلى جيل كإرث ثقيل لقد ترسّخ في الوعي المجتمعي أن الاختلافات العرقية والقبلية والدينية هي نقاط ضعف بدلاً من أن تكون مصادر غنى وتنوع أصبح الشك المتبادل والخوف من الآخر هو القاعدة والتعايش السلمي الاستثناء.
من الحرب الأهلية في الجنوب سابقًا إلى النزاعات في دارفور وكردفان والشرق والحرب الدائرة اليوم وصولاً إلى الأزمات السياسية التي تتجدد بعد كل حين يتكرر المشهد ذاته غياب الثقة انتشار خطاب الكراهية وتفتت الهوية الوطنية.
اليوم يجد الشباب السوداني نفسه في قلب صراعات لم يكن طرفاً فيها ولا يفهم أصولها في كثير من الأحيان يدفع ثمن انقسام سياسي حاد ونظام اجتماعي هش واقتصاد ممزق وكل ذلك نتيجة مباشرة وغير مباشرة لسياسات تقسيم متعمدة بدأت منذ أكثر من قرن والمؤلم أن هذه التركة لا تُواجه بوعي كافٍ بل يتم أحياناً تسطيحها والتقليل من خطورتها كما لو أنها مجرد حكاية قديمة تُروى للأطفال قبل النوم.

وبرغم الواقع المعقد إلا أن الأمل ما زال قائماً فالتاريخ ليس قدراً لا يُمكن تغييره بل هو مادة خام يُعاد تشكيلها بالإرادة والوعي مسؤولية التحرر من آثار الماضي لا تقع فقط على عاتق الحكومات بل على كل فرد في المجتمع فالتعليم والإعلام والثقافة والحوار المجتمعي كلها أدوات يمكن أن تعيد تشكيل الوعي وتبني مستقبلاً مختلفاً.

لكن الخطوة الأولى تكمن في الاعتراف بالمشكلة لا يمكن بناء وطن موحد إذا لم نواجه الحقيقة المرة أن السودان لا يزال أسيراً لسياسات تفريق زرعها الاستعمار وواصلتها قوى داخلية تغلبت مصالحها الشخصية على مصالح الوطن وأننا إن لم نكسر هذه الحلقة فإن الأجيال القادمة ستدفع ثمناً أغلى لقد آن الأوان أن تتحول قصة “فرّق تسد” من حكاية تروى إلى درس يُفهم ومن ثم يُتجاوز للعبور بالوطن الى بر الأمان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى