السودان ليس محتاجًا بل مُحتجز في عقلية الحاجة ” متى نوقف عبث المنظمات؟ بقلم : د. علاء عمد الدين البدري

رغم ما يمر به السودان من أزمات متلاحقة لا يزال خيارنا الأول في كل مرة هو انتظار “الدعم الدولي” وكأن قدر هذا الشعب أن يظل عالقًا في مربع الاستعطاف لا يملك من أمره شيئًا مشهد تكرر بما يكفي ليؤكد أن الأمر لم يعد مجرد ظرف طارئ بل عقلية مترسخة يجب أن تتغير.
إننا اليوم لسنا بصدد انتقاد المساعدات في حد ذاتها بل آلية تقديمها وغموض دوافعها وشروطها غير المعلنة فالكثير من هذه المنظمات رغم خطابها الإنساني تتحرك وفق أجندات تتقاطع مع السيادة الوطنية وتُعيد إنتاج أشكال جديدة من الهيمنة أكثر تعقيدًا من الاستعمار الكلاسيكي لذلك فإن المرحلة تقتضي وضوحًا في الرؤية وشجاعة في القرار يجب أن تُراجع الدولة وبحزم آليات السماح بدخول أي منظمة أجنبية تحت لافتة “المعونة” لأن كثيرًا من هذه الكيانات باتت تعمل كواجهة ناعمة لأطراف لا تسعى بالضرورة لمصلحة الوطن بقدر ما تسعى لضمان مصالحها في منطقة مضطربة.
إننا ندفع ثمن كل “عون” نسمح به من سيادتنا ومن استقلال قرارنا ومن مقدرات أجيالنا القادمة فالدعم الخارجي لم يكن يومًا خالصًا لوجه الإنسانية بل كان دوماً يحمل بين طياته شروطًا وإملاءات وترسيخًا لعلاقات تبعية وهيمنة السودان لا يفتقر إلى الموارد تحت أقدامنا خيرات عظيمة تفوق ما تملكه دول كثيرة تصنف اليوم في عداد الدول المتقدمة بل إلى الثقة بالنفس وإلى قيادة تمتلك الإرادة لكسر حلقة الاستجداء والاعتماد لدينا من الخيرات ما يجعلنا لا نحتاج لمعونات أحد بل نملك من المقومات ما يجعلنا نُسهم في إعانة الآخرين.
التحول من طلب العون إلى بناء الشراكة هو ما سيصنع الفرق الحقيقي وهو وحده القادر على نقلنا من طور التبعية إلى مرحلة السيادة الاقتصادية آن الأوان أن نثق في أنفسنا ونُحسن استغلال مواردنا ونُدرك أن مفتاح النهوض بأيدينا لا بأيدي الآخرين لقد حان الوقت للانتقال من سياسة “الاستعانة بالآخر” إلى مبدأ “الشراكة مع الآخر” شراكة تقوم على تبادل المصالح لا استغلال الحاجة وعلى الاستثمار المشترك لا الهِبات المشروطة السودان بما يمتلكه من موارد طبيعية هائلة وأرض زراعية خصبة وثروات معدنية نادرة لا يحتاج إلى من يطعمه بل إلى من يحترمه شريكًا على قدم المساواة.
مشروع الجزيرة مثالاً لا حصراً يُمكن أن يتحول إلى محور إقليمي للأمن الغذائي إذا ما أُعيد بناؤه وفق نموذج شراكة استثمارية متكاملة تحفظ السيادة وتُنعش الاقتصاد فبدلاً من توسيع دائرة الاعتماد على الخارج يمكن بناء تحالفات استراتيجية تستثمر مباشرة في الصناعة والبنية التحتية والتعليم والطاقة تحالفات تخرجنا من منطق تلقي الدعم إلى منطق خلق القيمة.
إن حكومة “الأمل” لا يمكن أن تكرر ذات الأنماط القديمة التي أسهمت في ترسيخ التبعية وفقدان الثقة بالنفس، المطلوب اليوم هو نهج جديد قائم على احترام الذات الوطنية والإيمان بأن السودان لا يقل إمكانيات عن أي دولة في العالم بل يملك من الموارد ما يؤهله ليكون قوة إقليمية إن أُحسن استغلالها.
ولن يكون ذلك ممكنًا ما دمنا نفتح الأبواب لكل جهة تحمل “بطانية ودواء او سلة غذائية” دون أن نُسائل من يقف خلفها ولماذا وما المقابل؟ لا بد من إنهاء ثقافة انتظار “الرحمة الدولية” واستبدالها بعقلية التخطيط السيادي والشراكة الذكية المرحلة المقبلة يجب أن تكون عنوانها شراكات تحفظ السيادة لا مساعدات تمسخها وهذا لن يتحقق إلا إذا أعدنا صياغة علاقتنا مع الخارج من موقع القوة لا الضعف ومن منطلق المصلحة لا العوز فالسودان ليس فقيرًا ما كان يومًا كذلك ولن يكون.




