“من يحمي العالم من المنظمة التي يُفترض أن تحميه”بقلم : د. علاء عماد الدين البدري.

منذ تأسيس منظمة الأمم المتحدة عقب الحرب العالمية الثانية رُوِّج لها باعتبارها حارس النظام الدولي وراعية السلام وحقوق الإنسان غير أنّ الواقع الحديث خاصة في مناطق الصراع يطرح أسئلة حول الدور الذي تلعبه هذه المؤسسة العالمية وحول المسافة الشاسعة بين المبادئ التي تعلنها والممارسات التي تُنسب إليها أو تتم في ظل صمتها.
الأمم المتحدة اليوم في نظر شعوب العالم لم تعد ذلك الكيان المحايد المدافع عن الضعفاء بل تحوّلت عبر بعثاتها ولجانها ومنظماتها المتفرعة إلى أداة نفوذ تمارس به القوى الكبرى سياسات ضغط وتوجيه تتقاطع في كثير من الأحيان مع مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية ومع تراجع قدرة الدول الاستعمارية القديمة على فرض إرادتها بالقوة المباشرة نجد في هذه المنظمات غطاءً ناعماً لاستمرار النفوذ بأدوات جديدة.
هذه المؤسسة التي صيغت يوماً بوصفها مظلة للعدالة الدولية أصبحت أقرب إلى أداة لإدارة التوازنات بين القوى الكبرى منها إلى كيان مستقل يعمل لصالح من لا صوت لهم ومع تراكم التجارب المريرة في مناطق الصراع باتت الأمم المتحدة بنية سياسية ثقيلة تتحرك ببطء حين يتعلق الأمر بالعدالة لكنها تتحرك بسرعة حين تكون المصالح الاستراتيجية للدول المؤثرة على المحك لتظهر فجوة واسعة بين خطابها الإنساني الراقي والممارسات العملية التي كثيراً ما تعكس انحيازات أو انتقائية واضحة وهو ما يدفع إلى التساؤل اليوم هل ما زالت المنظمة تمثل مقاصدها الأولى حقاً؟ أم أنها تحولت تدريجياً إلى منصة لإعادة إنتاج النفوذ الدولي بوسائل ناعمة بعد أن سقطت أدوات الاستعمار التقليدي؟
وتبدو أزمة الثقة هذه جلية في المشهد السوداني خصوصاً بعد الإعلان عن لجنة تقصي للحقائق في الفاشر وهو قرار تعتمد فيه الأمم المتحدة لغة اللجان والتحقيقات حين تشتد الضغوط الدولية أو تتصاعد الأصوات المطالِبة بالمحاسبة بينما تتجاهل أو تُبطئ تحركاتها حين تكون الوقائع على الأرض واضحة بما يكفي لعدم الحاجة إلى لجان جديدة مما يجعل توقيت إعلان اللجنة محل ريبة خاصة بعد انتشار مقاطع توثق الأحداث لحظة بلحظة وهي مقاطع لم تستطع الأطراف المتورطة نفيها لأنها خرجت من بين صفوفها نفسها ومع ذلك دخلت الأمم المتحدة بمقاربات لا تُشير دوماً إلى الحقائق بقدر ما تُظهر حرصاً على موازنة المواقف السياسية وتجنب الاصطدام مع القوى المؤثرة ولعل هذا النمط ليس جديداً فمن رواندا إلى البوسنة ومن العراق إلى سوريا ومن فلسطين إلى أجزاء كثيرة من أفريقيا يتكرر المشهد ذاته.
تقارير أممية متأخرة ومواقف تتغير بحسب الضغوط ولجان تعبّر عن رغبة في احتواء الغضب الشعبي أكثر مما تعبّر عن سعي جدي للعدالة الأمر الذي أنتج وعياً عالمياً يقول إن صمت الأمم المتحدة قد يكون أحياناً أشد وقعاً من كلماتها وإن تحركها المتأخر لا يعيد حياةً سُلبت ولا وطناً تمزّق بل يضيف طبقة من الإحباط إلى جراح مفتوحة أصلاً وما يزيد الشعور بالخيبة أن المنظمات الدولية لم تعد فقط جزءاً من المشهد السياسي بل أصبحت جزءاً من هندسة الوعي العام إذ تُمارس تأثيراً كبيراً عبر البيانات والتقارير التي تتلقفها وسائل الإعلام العالمية وتحوّلها إلى سردية رسمية يصعب على الدول الضعيفة تفكيكها أو مواجهتها ما لم تمتلك أدوات إعلامية وقانونية قوية وهو ما يجعل الكثير من الدول عاجزة عن تقديم روايتها الحقيقية للعالم في مواجهة أجهزة ضخمة لديها القدرة على صياغة الرأي الدولي.
ومع ذلك فإن الأزمة لا تتعلق بالأمم المتحدة وحدها بل ببنية النظام الدولي كله حيث تحولت مبادئ «الشرعية الدولية» إلى مفاهيم واسعة تستخدمها القوى الكبرى حين تخدم مصالحها وتُغضّ الطرف عنها حين تتعارض مع حساباتها الاستراتيجية مما جعل المنظمة تفقد تدريجياً ثقة الشعوب التي كانت تراها يوماً الملاذ الأخير للعدالة وفي ظل هذا السياق المعقد يطرح اليوم ضرورة إعادة تعريف العلاقة مع الأمم المتحدة والمنظمات المتفرعة عنها ليس على أساس القطيعة فقط بل على أساس بناء معادلة جديدة تحمي السيادة الوطنية وتضع حدوداً واضحة لأي تدخل خارجي وتفرض على المؤسسات الدولية احترام الواقع المحلي وعدم التعامل مع الدول بوصفها ساحات مفتوحة للنفوذ.
أن الإصلاح الحقيقي لا يتحقق داخل أروقة المنظمة بل عبر بناء قوة داخلية للدول نفسها تمكنها من فرض روايتها ومنع تزييف الحقائق ومن الدفاع عن حقوقها بمنظومة قانونية وإعلامية مستقلة لأن العالم لم يعد يعطي الاعتبار للشكوى بل يحترم من يفرض احترامه بالقدرة والوضوح والجرأة وفي نهاية المطاف فإن مستقبل العلاقة مع الأمم المتحدة رهن بإرادة الشعوب والدول معاً إمّا قبول استمرار الوضع الراهن بما يحمله من انتقائية وتدخل غير مباشر أو صناعة نموذج جديد من التعامل يحدد الحقوق والحدود ويعيد الاعتبار للسيادة الوطنية ويوقف دورة «التدخل الناعم» التي ترتدي كل مرة ثوباً مختلفاً لكنها تظل في جوهرها إعادة إنتاج لنمط قديم من السيطرة بأدوات جديدة وهي دورة آن الأوان لكسرها عبر وعي سياسي جديد يضع مصلحة الوطن فوق كل حساب.




