“تجّار الأزمات… طعنة في ظهر الوطن”بقلم: د. علاء عماد الدين البدري

في خضم المحن التي يعانيها السودان من حرب طاحنة وتشريد قاسٍ ودمارٍ طال الأرواح والعمران برزت فئة لا تقل خطراً عن الذين يرفعون السلاح ولا تقل خيانة عن أولئك الذين باعوا الأرض والعِرض إنهم تجّار الأزمات من تخلوا عن قيم الوطن وارتضوا لأنفسهم أن يكونوا معاول هدم من الداخل يقتاتون على دماء أهلهم وينتعشون وسط ركام الخراب.
لقد عُرف الإنسان السوداني في مشارق الأرض ومغاربها بطيب معدنه وكرم نفسه وسخاء يده في السلم كما في الشدة ولكن ما رأيناه منذ اندلاع الحرب يُثير الأسى ويبعث على الغضب إذ ظهرت فئة لا همّ لها إلا الربح ولا غاية لها إلا مراكمة المال ولو على حساب الجوعى والنازحين والمكلومين.
منذ اللحظات الأولى لانفجار الأوضاع تاجر هؤلاء بمعاناة الناس روّجوا الذعر وضاعفوا أسعار السلع والخدمات واستثمروا في فواجع البسطاء جعلوا من تذاكر الخروج من العاصمة سلعة باهظة ومن لقمة العيش غاية صعبة المنال لم يتركوا للمواطن فرصة للصمود في منزله بل دفعوه دفعاً نحو النزوح لا فراراً من الرصاص بل هرباً من جشعهم الذي لا يعرف ذمة ولا ضميرًا.
السؤال الذي يفرض نفسه هل هذه الفئة تعمل بتنسيق خفي مع المرتزقة وميليشيا الجنجويد؟ أم أنها مجرد شرائح انتهازية خرجت من رحم الفوضى واستباحت ما تبقى من معاني الوطنية؟ الواقع يقول إنهم بغض النظر عن خلفياتهم لعبوا دورًا محوريًا في إطالة أمد المعاناة وساهموا بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في تشريد الآلاف بل الملايين من السودانيين.
ولم يقف شرّهم عند حدود الخرطوم بل امتد إلى الولايات الآمنة فأسهموا في رفع الإيجارات وزيادة أسعار الطعام والدواء حتى ضاق بالناس الوطن وأُجبر كثير منهم على ارتياد الصحارى هرباً إلى المجهول وهنا لا بد من أن نُسمي الأمور بمسمياتها لم يُشرد السودانيون بفعل الحرب وحدها بل بفعل هذه الفئة المتوحشة التي لا ترى في الوطن إلا سوقاً مفتوحًا للربح ولا في المواطن إلا زبونًا محتاجًا.
وهنا يكمن الخطر الأكبر إذ إن المرتزقة واضحو العداء أما هؤلاء فهم خونة مستترون يدّعون الوطنية نهارًا ويتاجرون بمآسي الناس ليلًا إنهم أشد فتكًا من العدو الظاهر لأنهم ينهشون في جسد المجتمع من الداخل ويمزقون خيوط الثقة التي تربط أبناء الوطن ببعضهم.
المؤلم في الأمر أن هؤلاء التجار من المرتزقة المحليين لا يشعرون بأي ذنب لا يهمهم سوى تضخيم أرصدتهم ومصالحهم الشخصية ولو على جثث الأبرياء لقد أثبتت الأزمة أن من يتاجر بالمآسي أكثر خطورة من من يحمل السلاح لأنه ينهش في نسيج المجتمع من الداخل ويدمر الثقة والتعاضد والتكافل التي كانت مصدر قوة السودانيين في أحلك الأوقات.
ألم يحن الوقت لفتح ملفات هؤلاء ومعاقبتهم؟ ألم يحن الوقت لمحاسبة من ساهموا في تهجير الناس عن أوطانهم لا بسبب الحرب فقط بل بسبب الجشع والانتهازية؟ إن لم تُوضع حدود واضحة لهؤلاء فإن الوطن لن يتعافى حتى بعد توقف صوت الرصاص.