آراء ومقالات

“من الشورى إلى ديمقراطية الواجهة: رحلة المفاهيم المغلوطة”بقلم د. علاء عماد الدين البدري

حين تُذكر الديمقراطية في المحافل السياسية أو الأوساط الفكرية تتباين الآراء بين من يراها قمة التطور السياسي ومن يعتقد أنها ليست إلا أداة تمويه لمشاريع لا تخدم الشعوب غير أن هذه الكلمة على ما تحمله من معانٍ ليست مفهوماً غريباً على ثقافتنا ولا مستجداً على تراثنا الحضاري.

في الحقيقة يمكن القول إن جوهر الديمقراطية القائم على مبدأ المشاركة والعدالة والمساواة وحرية الرأي قد تجلّى بوضوح في الإسلام منذ فجره الأول ولكن تحت اسم أكثر روحانية وسموًّا(الشورى).

قال تعالى) وأمرهم شورى بينهم (وهذا النص القرآني الكريم لا يحتمل تأويلاً أو تمييعًا في دلالته فقد قرّر مبدأ التشاور كأساس في إدارة شؤون المجتمع لم يكن الحكم الفردي أو التفرد بالقرار هو النموذج الذي تبنّاه الإسلام بل على العكس كانت الشورى ممارسة عملية في نهج النبي الكريم ﷺ حيث كان يستشير الصحابة في أدق الأمور ويأخذ برأي الأغلبية حتى إن خالف رأيه أحيانًا.

حين يُطرح مفهوم الديمقراطية في العالم العربي والإسلامي لا يُراد به غالبًا المشاركة الشعبية الحقيقية بل يُستعمل كغطاء لتفكيك المجتمعات وصناعة الانقسامات وتكوين الأحزاب المتناحرة التي لا تخدم إلا من يدير خيوط اللعبة من بعيد، نعم الغرب الذي عجز عن تحريف القرآن لجأ إلى ما هو أخطر تحريف العقول فعندما سقطت محاولات تحريف النصوص بدأ العمل على تحريف المفاهيم وفي جوهرها تسعى لهدم منظومة القيم المتكاملة التي جاء بها الإسلام وأصبح من الطبيعي أن ترى المسلم يقدّس نظامًا وضعه بشر بينما يتشكك في منهج أنزله خالق البشر!

لقد قُطّعت أوصال الأديان السابقة بنفس أدوات “الإصلاح” و”التحرر” التي تُطرح اليوم فلماذا نستغرب إن كانت الديمقراطية الحديثة تُستعمل في منطقتنا لتكرار السيناريو ذاته؟ المشكلة ليست في الديمقراطية كمفهوم عام بل في طريقة الترويج لها كنظام عالمي واحد صالح لكل الشعوب وفي كل الأزمان منطق مرفوض عقلًا وواقعًا، نحن لا نرفض حرية الرأي ولا نعارض المشاركة الشعبية ولكننا نرفض أن يُفرض علينا قالب غربي على أنه النموذج الوحيد للحكم الرشيد.

الشورى ليست أقل شأنًا من الديمقراطية بل أرقى وأشمل منها ففيها توازن بين حرية الفرد ومسؤولية الجماعة وبين صوت الشعب وحدود الشرع وهذا ما تفتقده كثير من النماذج الديمقراطية التي انقلبت إلى الانحلال والفوضى.

عندما نتحدث عن الديمقراطية في السودان فإننا نتحدث عن حلم ظل يراود الأجيال لكننا حين حاولنا تطبيقه على أرض الواقع اصطدمنا بواقعٍ مرير يفتقر إلى أبسط المقومات الفكرية والثقافية التي تُمكّن من ممارسة ديمقراطية حقيقية والتجارب أثبتت أن التحول الديمقراطي لا يتم بالشعارات وحدها بل يحتاج إلى وعي جمعي وإلى أرضية صلبة من الفهم والمسؤولية.

الحرية والفوضى خطان رفيعان متوازيان يصعب التمييز بينهما إذا غاب الوعي، وما حدث في السودان خلال التجارب الديمقراطية السابقة هو أن الحرية فُسّرت على أنها انفلات وأُفرغت من مضمونها الحقيقي فتحولت إلى فوضى عارمة وهرج ومرج وضياع للبوصلة الوطنية فانهارت التجارب قبل أن تكتمل وتحولت الحرية إلى فوضى والخطاب الوطني إلى صراعات عبثية.

المؤلم أكثر أن هذه الفوضى لم تكن دائمًا نتيجة عفوية بل جاءت ضمن سياق إقليمي ودولي يتغذى على ضعف الشعوب ويستثمر في خلافاتها ، وإن أخطر ما حدث في هذه المراحل هو أن القوى الأجنبية التي طالما بشّرت بالديمقراطية وحقوق الإنسان لم تكن إلا مُغريًا بالوهم ساعدت على إشعال النار ثم وقفت على الهامش ، تبرّأت كما تبرّأ إبليس ممن أغواهم تركتنا في مواجهة المصير نتصارع في الظلام بينما هي تحصد المكاسب بهدوء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى